دعا الشعر العربي في كثير من نماذجه إلى التحلي بالأخلاق الكريمة
وكان في الوقت ذاته مصدراً للحكمة ونبعاً للقيم الرفيعة
ومنهاجاً إلى المثل العليا، وفكرة الصداقة في الشعر لها حضورها
القوى في الأدب القديم فهاهو الشاعر القروي يجعل الصداقة
فوق كل شيء حين يقول:
لاشيء في الدنيا أحب لناظري
من منظر الخلان والأصحاب
وألذ موسيقى تسر مسامعي
صوت البشير بعودة الأحباب
ويرى المتنبي أن أسوأ البلاد تلك التي لا يستطيع
فيها المرء أن يعثر على صديق:
شر البلاد بلاد لا صديق بها
وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
ولكن كيف يختار المرء صديقه؟
يقول أبو الفتح البستي يحث على اختيار الصديق من
ذوي الأحساب والأصول الكريمة:
إذا اصطفيت امرأً فليكن
شريف النِّجار زكى الحَسَب
فنذل الرجالِ كنذلِ النَّباتِ
فلاَ للثمارِ ولا للحطب
ويقول:
نصحتك لا تصحب سوى كل فاضل
خليق السجايا بالتعفف والظَّرفِ
ولا تعتمد غير الكرام فواحدٌ
من الناس إن حصَّلتَ خيرٌ من الألفِ
الشعر إذن يؤكد أهمية الصداقة في حياة الإنسان لأنها تعين عند الشدة
وتؤنس عند الفرج، ولأن لكل سلوك شروطاً وحدوداً فقد بين الشعر
كيفية اختيار الصديق حتى لا يصاب المرء بالخيانة والغدر، إن التركيز
على الأخلاق والانتساب إلى الأصول العريقة في الخير والأصالة تعد
من ملامح الشعر العربي الداعي لاتخاذ الصديق، والشاعر يقود هذه
الصداقة في دروب الحياة فالذي يحاسب صديقه على كل هفوة
لن يجد له صديقاً كما يقول بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً
صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
وقال آخر:
ولست بمستبق أخا لاتلمه
على شعث أي الرجال المهذب
بل إن شاعراً مثل أبي فراس الحمداني يجد في هفوات الصديق
فرصة لاختبار هذه العلاقة وتوثيقها من خلال العفو
والتسامح والتعاطف حيث يقول:
ما كنتُ مذ كنتُ إلا طوع خلاني
ليست مؤاخذةُ الإخوان من شاني
يجني الخليل فأستحلي جنايته
حتى أدل على عفوي وإحساني
إذا خليلي لم تكثر إساءته
فأين موضع إحساني وغفراني
يجني عليَّ وأحنو صافحاً أبداً
لا شيء أحسن من حان على جانِ
والصورة التي يرسمها أبو فراس لنفسه في معاملته لصديقه
هي تعبير عن النبل والسماحة والخلق الكريم فهو موافق لخلانه
فيما يرونه، إنه حاضر أينما طلبوه وجدوه،، فهو عند الشدة والرخاء
وهو عند الخوف والرجاء بل إن طباعه لا تتقبل عتاب ولوم الأصدقاء
وينادى في نبله حين يرى في جناية صديقه شيئا حلوا لأنه يعرف أن
هذه الجناية ستكون فرصة لإظهار صدق مودته وقوة ولائه وحسن وفائه
ويرخى حبل الود حتى يتدلل الصديق على عفوه وإحسانه وهو يتساءل
أين يكون موضع إحساني لو لم يكن هناك ذنب لأغفره، وكأنه يريد
أن يقول إن النقائص تظهر الفضائل، ويقول الشاعر الجاهلي عديُّ بن زيد:
إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارهم
ولا تصحب الأردى فتردى من الردي
وبالعدل فانطق إن نطقت ولا تلم
وذا الذم فأذممه وذا الحمد فاحمد
ولا تلحُ إلا من ألام ولا تلم
وبالبذل من شكوى صديقك فامدد
والشاعر الجاهلي يختلف اختلافاً كبيراً عن شاعرنا أبي فراس
فبينما أبو فراس يرى في الصداقة عفوا وإحسانا وغفرانا فإن عدي
يرى العلاقة بين الأصدقاء قائمة على الندية، فهو يدعو إلى حمد
من يستحق الحمد وذم من يستحق الذم ولكنه من البداية ينصح بحسن
الاختيار، وللصاحب والخليل علامات وسمات وملامح فها هو كثير
الخزاعى يرى في صديقه الصبر ودواع المودة يقول:
وليس خليلي بالملول ولا الذي
إذا غبت عنه باعني بخليل
ولكن خليلي من يديم وصاله
ويكتم سري عند كل دخيل
والمتنبي ينفذ عند اختيار الصديق إلى جوهر شخصيته وطباعه
وأخلاقه حتى في الحب أليس هو القائل:
وحب العاقلين على التصافي
وحب الجاهلين على الوسام
ينظر المتنبي عند اختيار الصديق إلى الباطن فيقول:
أصاحب نفس المرء من قبل جسمه
وأعرفها في فعله والتكلم
وأحلم عن خلي وأعلم أنه
متى أجزه حلما على الجهل يندم
وهذا أعرابي مجهول يدهشنا حين يقول:
وكنت إذا علقت حيال قوم
صحبتهم وشيمتي الوفاء
فأحسن حين يحسن محسنوهم
وأجتنب الإساءة إن أساءوا
وعلقت حبالهم كناية عن اتصال الود والصحبة والصداقة.
والمتنبي الذي الفناه يركز على الباطن لا الظاهر وعلى الكيف
لا الكم يرى أن الصداقة ينبغي أن تؤخذ بحذر وعلى المرء
ألا يستكثر من الأصحاب، إنه اقرب إلى التشاؤم حين يرى في
الصداقة عداوة محتملة، إنه يدعو إلى الحكمة والتبصر والحذر
وتلك رؤيا مجرب عرف وذاق فخبر الناس والدنيا يقول أبو الطيب المتنبي:
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يحول من الطعام أو الشراب
إذا انقلب الصديق غدا عدوا
مبينا والأمور إلى انقلاب
ولو كان الكثير يطيب كانت
مصاحبة الكثير من الصواب
ولكن قلما استكثرت إلا
سقطت على ذئاب في ثياب
وهذا الرأي من المتنبي يتسق ورؤيته المتشائمة للبشر أليس هو الذي يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روّى رمحه غير راحمِ
فلا هو مرحوم إذا قدروا له
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
ولاشك أن رؤية مثل أبي فراس الحمداني على النقيض من رؤية
المتنبي وليست العبرة هنا بالصواب والخطأ وإنما مرد الأمر كله
إلى تعامل الطبيعة الإنسانية مع العالم والبشر، فأبو فراس الحمداني
ينهل من معين رائق من النبل والفروسية والأصول الكريمة
والأحساب العالية بينما يعتمد المتنبي على تجربته القاسية في
حياة لم يجد فيها الراحة أو الهناء، وقريب من رؤية المتنبي
التي تدعو إلى الحرص والحذر عند الاختيار قول ابن الكيزاني:
تخير لنفسك من تصطفيه
ولا تدنين إليك اللئاما
فليس الصديق صديق الرخاء
ولكن إذا قعد الدهر قاما
تنام وهمته في الذي
يهمك لا يستلق المناما
وكم ضاحك لك أحشاؤه
تمناك أن لو لقيت الحماما
وقريب من أبي فراس قول ابن المقري:
والق الأحبة والإخوان إن قطعوا
حبل الوداد بحبل منك فصل
فأعجز الناس حر ضاع من يده
صديق ود فلم يردده بالحيل
استصف خلَّك واستخلصه أسهل من
تبديل خل وكيف ألا من بالبدل
واحمل ثلاث خصال من مطالبه
احفظه فيها ودع ماشئته وقل
ظلم الدلال وظلم الغيظ فاعفهما
وظلم هفوته واقسط ولا تحُلِ
أي أن على الصديق أن يغفر لصديقه ظلم الدلال وهو التحامل الناشئ
عن الثقة الزائدة في المودة وظلم الغيظ وهو في الغالب تنفيس عن
الغضب وظلم الهفوة لأنه غير مقصود وقال بشامة بن عمرو:
خزي الحياة وحرب الصديق
وكلا أراه طعاما وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما
فسيروا إلى الموت سيرا جميلا
ولا تقعدوا وبكم منه
كفى بالحوادث للمرء غولا
وقال محمد الواسطي:
تعارف أرواح الرجال إذا التقوا
فمنهم عدو يتقى وخليل
كذاك أمور الناس والناس منهم
خفيف إذا صاحبته وثقيلُ
وهكذا نجد أن الشعر قد حفل من خلال مفهوم الصداقة بكثير من
الفهم والخبرة للطبيعة البشرية في الخير والشر على السواء.